سورة النساء - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النساء)


        


{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (24)}
قوله تعالى: {والمحصنات مِنَ النساء إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أيمانكم كتاب الله عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ}.
فيه مسائل:
المسألة الأولى: الاحصان في اللغة المنع، وكذلك الحصانة، يقال: مدينة حصي


{وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25)}
اعلم أنه تعالى لما بين من يحل ومن لا يحل: بين فيمن يحل أنه متى يحل، وعلى أي وجه يحل فقال: {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ الكسائي {المحصنات} بكسر الصاد، وكذلك {محصنات غَيْرَ مسافحات} وكذلك {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات} كلها بكسر الصاد، والباقون بالفتح، فالفتح معناه ذوات الأزواج، والكسر معناه العفائف والحرائر، والله أعلم.
المسألة الثانية: الطول: الفضل، ومنه التطول وهو التفضل، وقال تعالى: {ذِى الطول} [غافر: 3] ويقال: تطاول لهذا الشيء أي تناوله، كما يقال: يد فلان مبسوطة وأصل هذه الكلمة من الطول الذي هو خلاف القصر؛ لأنه إذا كان طويلا ففيه كمال وزيادة، كما أنه إذا كان قصيرا ففيه قصور ونقصان، وسمي الغنى أيضاً طولا، لأنه ينال به من المرادات مالا ينال عند الفقر، كما أن بالطول ينال ما لا ينال بالقصر.
إذا عرفت هذا فنقول: الطول القدرة، وانتصابه على أنه مفعول يستطع وأَن يَنكِحَ في موضع النصب على أنه مفعول القدرة.
فان قيل: الاستطاعة هي القدرة، والطول أيضا هو القدرة، فيصير تقدير الآية: ومن لم يقدر، منكم على القدرة على نكاح المحصنات، فما فائدة هذا التكرير في ذكر القدرة؟
قلنا: الأمر كما ذكرت، والأولى أن يقال: المعنى فمن لم يستطع منكم استطاعة بالنكاح المحصنات، وعلى هذا الوجه يزول الاشكال، فهذا ما يتعلق باللغة.
أما ما قاله المفسرون فوجوه:
الأول: ومن لم يستطع زيادة في المال وسعة يبلغ بها نكاح الحرة فلينكح أمة.
الثاني: أن يفسر النكاح بالوطء، والمعنى: ومن لم يستطع منكم طولا وطء الحرائر فلينكح أمة، وعلى هذا التقدير فكل من ليس تحته حرة فإنه يجوز له التزوج بالأمة.
وهذا التفسير لائق بمذهب أبي حنيفة، فان مذهبه أنه إذا كان تحته حرة لم يجز له التزوج بالأمة.
وهذا التفسير لائق بمذهب أبي حنيفة، فإن مذهبه أنه إذا كان تحته حرة لم يجز له نكاح الأمة، سواء قدر على التزوج بالحرة أو لم يقدر.
والثالث: الاكتفاء بالحرة، فله أن يتزوج بالأمة سواء كان تحته حرة أو لم يكن، كل هذه الوجوه إنما حصلت، لأن لفظ الاستطاعة محتمل لكل هذه الوجوه.
المسألة الثالثة: المراد بالمحصنات في قوله: {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ المحصنات} هو الحرائر، ويدل عليه أنه تعالى أثبت عند تعذر نكاح المحصنات نكاح الاماء، فلابد وأن يكون المراد من المحصنات من يكون كالضد للاماء، والوجه في تسمية الحرائر بالمحصنات على قراءة من قرأ بفتح الصاد: أنهن أحصن بحريتهن عن الأحوال التي تقدم عليها الإماء، فإن الظاهر أن الأمة تكون خراجة ولاجة ممتهنة مبتذلة، والحرة مصونة محصنة من هذه النقصانات، وأما على قراءة من قرأ بكسر الصاد، فالمعنى أنهن أحصن أنفسهن بحريتهن.
المسألة الرابعة: مذهب الشافعي رضي الله عنه: أن الله تعالى شرط في نكاح الإماء شرائط ثلاثة، اثنان منها في الناكح، والثالث في المنكوحة، أما اللذان في الناكح. فأحدهما: أن يكون غير واجد لما يتزوج به الحرة المؤمنة من الصداق، وهو معنى قوله: {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ المحصنات المؤمنات} فعدم استطاعة الطول عبارة عن عدم ما ينكح به الحرة.
فان قيل: الرجل إذا كان يستطيع التزوج بالأمة يقدر على التزوج بالحرة الفقيرة، فمن أين هذا التفاوت؟
قلنا: كانت العادة في الإماء تخفيف مهورهن ونفقتهن لاشتغالهن بخدمة السادات، وعلى هذا التقدير يظهر هذا التفاوت.
وأما الشرط الثاني: فهو المذكور في آخر الآية وهو قوله: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِىَ العنت مِنْكُمْ} [النساء: 25] أي بلغ الشدة في العزوبة.
وأما الشرط الثالث: المعتبر في المنكوحة، فأن تكون الأمة مؤمنة لا كافرة، فإن الأمة إذا كانت كافرة كانت ناقصة من وجهين: الرق والكفر، ولا شك أن الولد تابع للأم في الحرية والرق، وحينئذ يعلق الولد رقيقا على ملك الكافر، فيحصل فيه نقصان الرق ونقصان كونه ملكا للكافر، فهذه الشرائط الثلاثة معتبرة عند الشافعي في جواز نكاح الأمة.
وأما أبو حنيفة رضي الله عنه فيقول: إذا كان تحته حرة لم يجز له نكاح الأمة، أما إذا لم يكن تحته حرة جاز له ذلك، سواء قدر على نكاح الحرة أو لم يقدر، واحتج الشافعي على قوله بهذه الآية وتقريره من وجهين:
الأول: أنه تعالى ذكر عدم القدرة على طول الحرة، ثم ذكر عقيبه التزوج بالأمة، وذلك الوصف يناسب هذا الحكم لأن الإنسان قد يحتاج الى الجماع، فاذا لم يقدر على جماع الحرة بسبب كثرة مؤنتها ومهرها، وجب أن يؤذن له في نكاح الأمة، اذا ثبت هذا فنقول: الحكم اذا كان مذكورا عقيب وصف يناسبه، فذلك الاقتران في الذكر يدل على كون ذلك الحكم معللا بذلك الوصف، اذا ثبت هذا فنقول: لو كان نكاح الأمة جائزا بدون القدرة على طول الحرة ومع القدرة عليه لم يكن لعدم هذه القدرة أثر في هذا الحكم ألبتة، لكنا بينا دلالة الآية على أن له أثرا في هذا الحكم، فثبت أنه لا يجوز التزوج بالأمة مع القدرة على طول الحرة.
الثاني: أن نتمسك بالآية على سبيل المفهوم، وهو أن تخصيص الشيء بالذكر يدل على نفي الحكم عما عداه، والدليل عليه أن القائل اذا قال: الميت اليهودي لا يبصر شيئا، فإن كل أحد يضحك من هذا الكلام ويقول: إذا كان غير اليهودي أيضا لا يبصر فما فائدة التقييد بكونه يهوديا، فلما رأينا أن أهل العرف يستقبحون هذا الكلام ويعللون ذلك الاستقباح بهذه العلة، علمنا اتفاق أرباب اللسان على أن التقييد بالصفة يقتضي نفي الحكم في غير محل القيد.
قال أبو بكر الرازي: تخصيص هذه الحالة بذكر الاباحة فيها لا يدل على حظر ما عداه، كقوله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إملاق} [الإسراء: 31] ولا دلالة فيه على إباحة القتل عند زوال هذه الحالة، وقوله: {لاَ تَأْكُلُواْ الربا أضعافا مضاعفة} [آل عمران: 130] لا دلالة فيه على إباحة الأكل عند زوال هذه الحالة، وقوله: {لاَ تَأْكُلُواْ الربا أضعافا مضاعفة} لا دلالة فيه على إباحة الأكل عند زوال هذه الحالة، فيقال له: ظاهر اللفظ يقتضي ذلك، إلا أنه ترك العمل به بدليل منفصل، كما أن عندك ظاهر الأمر للوجوب، وقد يترك العمل به في صور كثيرة لدليل منفصل، والسؤال الجيد على التمسك بالآية ما ذكرناه، حيث قلنا: لم لا يجوز أن يكون المراد من النكاح الوطء، والتقدير: ومن لم يستطع منكم وطء الحرة، وذلك عند من لا يكون تحته حرة، فإنه يجوز له نكاح الأمة، وعلى هذا التقدير تنقلب الآية حجة لأبي حنيفة.
وجوابه: أن أكثر المفسرين فسروا الطول بالغنى، وعدم الغنى تأثيره في عدم القدرة على العقد، لا في عدم القدرة على الوطء.
واحتج أبو بكر الرازي على صحة قوله بالعمومات، كقوله تعالى: {فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النساء} [النساء: 3] وقوله: {وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ} وقوله: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ} وقوله: {والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب} [المائدة: 5] وهو متناول للاماء الكتابيات. والمراد من هذا الإحصان العفة.
والجواب: أن آيتنا خاصة، والخاص مقدم على العام، ولأنه دخلها التخصيص فيما إذا كان تحته حرة، وإنما خصت صونا للولد، عن الارقاق، وهو قائم في محل النزاع.
المسألة الخامسة: ظاهر قوله: {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ المحصنات المؤمنات} يقتضي كون الإيمان معتبرا في الحرة، فعلى هذا: لو قدر على حرة كتابية ولم يقدر على طول حرة مسلمة فإنه يجوز له أن يتزوج الأمة، وأكثر العلماء أن ذكر الإيمان في الحرائر ندب واستحباب، لأنه لا فرق بين الحرة الكتابية وبين المؤمنة في كثرة المؤنة وقلتها.
المسألة السادسة: من الناس من قال: انه لا يجوز التزوج بالكتابيات ألبتة، واحتجوا بهذه الآيات، فقالوا: إنه تعالى بين أن عند العجز عن نكاح الحرة المسلمة يتعين له نكاح الأمة المسلمة، ولو كان التزوج بالحرة الكتابية جائزا، لكان عند العجز عن الحرة المسلمة لم تكن الأمة المسلمة متعينة، وذلك ينفي دلالة الآية. ثم أكدوا هذه الدلالة بقوله تعالى: {وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] وقد بينا بالدلائل الكثيرة في تفسير هذه الآية أن الكتابية مشركة.
المسألة السابعة: الآية دالة على التحذير من نكاح الاماء، وأنه لا يجوز الإقدام عليه إلا عند الضرورة، والسبب فيه وجوه:
الأول: أن الولد يتبع الأم في الرق والحرية، فإذا كانت الأم رقيقة علق الولد رقيقا، وذلك يوجب النقص في حق ذلك الإنسان وفي حق ولده.
والثاني: أن الأمة قد تكون تعودت الخروج والبروز والمخالطة بالرجال وصارت في غاية الوقاحة، وربما تعودت الفجور، وكل ذلك ضرر على الأزواج.
الثالث: أن حق المولى عليها أعظم من حق الزوج، فمثل هذه الزوجة لا تخلص للزوج كخلوص الحرة، فربما احتاج الزوج إليها جدا ولا يجد إليها سبيلا لأن السيد يمنعها ويحبسها.
الرابع: أن المولى قد يبيعها من إنسان آخر، فعلى قول من يقول: بيع الأمة طلاقها، تصير مطلقة شاء الزوج أم أبى، وعلى قول من لا يرى ذلك فقد يسافر المولى الثاني بها وبولدها، وذلك من أعظم المضار.
الخامس: أن مهرها ملك لمولاها، فهي لا تقدر على هبة مهرها من زوجها، ولا على إبرائه عنه، بخلاف الحرة، فلهذه الوجه ما أذن الله في نكاح الأمة إلا على سبيل الرخصة، والله أعلم.
قوله تعالى: {فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أيمانكم مّن فتياتكم المؤمنات} فيه مسائل:
المسألة الأولى: قوله: {فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أيمانكم} أي فليتزوج مما ملكت أيمانكم.
قال ابن عباس: يريد جارية أختك، فِِإن الإنسان لا يجوز له أن يتزوج بجارية نفسه.
المسألة الثانية: الفتيات: المملوكة جمع فتاة، والعبد فتى، وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يقولن أحدكم عبدي ولكن ليقل فتاي وفتاتي». ويقال للجارية الحديثة: فتاة، وللغلام فتى، والأمة تسمى فتاة، عجوزاً كانت أو شابة، لأنها كالشابة في أنها لا توقر توقير الكبير.
المسألة الثالثة: قوله: {مّن فتياتكم المؤمنات} يدل على تقييد نكاح الأمة بما إذا كانت مؤمنة فلا يجوز التزوج بالأمة الكتابية، سواء كان الزوج حراً أو عبدا، وهذا قول مجاهد وسعيد والحسن، وقول مالك والشافعي، وقال أبو حنيفة: يجوز التزوج بالأمة الكتابية.
حجة الشافعي رضي الله عنه: أن قوله: {مّن فتياتكم المؤمنات} تقييد لجواز نكاح الأمة بكونها مؤمنة، وذلك ينفي جواز نكاح غير المؤمنة من الوجهين اللذين ذكرناهما في مسألة طول الحرة، وأيضا قال تعالى: {وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221].
حجة أبي حنيفة رضي الله عنه من وجوه: النص والقياس: أما النص فالعمومات التي ذكرنا تمسكه بها في طول الحرة، وآكدها قوله: {والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] وأما القياس فهو أنا أجمعنا على أن الكتابة الحرة مباحة، والكتابية المملوكة أيضا مباحة، فكذلك إذا تزوج بالكتابية المملوكة وجب أنه يجوز.
والجواب عن العمومات: أن دلائلنا خاصة فتكون مقدمة على العمومات، وعن القياس: أن الشافعي قال: إذا تزوج بالحرة الكتابية فهناك نقص واحد، أما إذا تزوج بالأمة الكتابية فهناك نوعان من النقص: الرق والكفر، فظهر الفرق.
ثم قال تعالى: {والله أَعْلَمُ بإيمانكم} قال الزجاج: معناه اعملوا على الظاهر في الإيمان فإنكم مكلفون بظواهر الأمور، والله يتولى السرائر والحقائق.
ثم قال تعالى: {بَعْضُكُم مّن بَعْضٍ} وفيه وجهان:
الأول: كلكم أولاد آدم فلا تداخلنكم أنفة من تزوج الإماء عند الضرورة.
والثاني: ان المعنى: كلكم مشتركون في الإيمان، والإيمان أعظم الفضائل، فإذا حصل الاشتراك في أعظم الفضائل كان التفاوت فيما وراءه غير ملتفت إليه، ونظيره قوله تعالى: {والمؤمنون والمؤمنات بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ} [التوبة: 71] وقوله: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أتقاكم} [الحجرات: 13] قال الزجاج: فهذا الثاني أولى لتقدم ذكر المؤمنات، أو لأن الشرف بشرف الإسلام أولى منه بسائر الصفات، وهو يقوي قول الشافعي رضي الله عنه: إن الإيمان شرط لجواز نكاح الأمة.
واعلم أن الحكمة في ذكر هذه الكلمة أن العرب كانوا يفتخرون بالأنساب، فاعلم في ذكر هذه الكلمة أن الله لا ينظر ويلتفت اليه.
روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ثلاث من أمر الجاهلية: الطعن في الأنساب، والفخر بالأحساب، والاستسقاء بالانواء»، ولا يدعها الناس في الاسلام وكان أهل الجاهلية يضعون من ابن الهجين، فذكر تعالى هذه الكلمة زجرا لهم عن أخلاق أهل الجاهلية.
ثم أنه تعالى شرح كيفية هذا النكاح فقال: {فانكحوهن بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: اتفقوا على أن نكاح الأمة بدون إذن سيدها باطل، ويدل عليه القرآن والقياس.
أما القرآن فهو هذه الآية فان قوله تعالى: {فانكحوهن بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} يقتضي كون الإذن شرطا في جواز النكاح، وان لم يكن النكاح واجبا. وهو كقوله عليه الصلاة والسلام: «من أسلم فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم» فالسلم ليس بواجب، ولكنه إذا اختار أن يسلم فعليه استيفاء هذه الشرائط، كذلك النكاح وان لم يكن واجبا، لكنه إذا أراد أن يتزوج أمة، وجب أن لا يتزوجها إلا باذن سيدها.
وأما القياس: فهو أن الأمة ملك للسيد، وبعد التزوج يبطل عليه أكثر منافعها، فوجب أن لا يجوز ذلك إلا باذنه.
واعلم أن لفظ القرآن مقتصر على الأمة، وأما العبد فقد ثبت ذلك في حقه بالحديث عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا تزوج العبد بغير إذن السيد فهو عاهر».
المسألة الثانية: قال الشافعي رضي الله عنه: المرأة البالغة العاقلة لا يصح نكاحها إلا باذن الولي.
وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: يصح، احتج الشافعي بهذه الآية، وتقريره أن الضمير في قوله: {فانكحوهن بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} عائد إلى الاماء، والأمة ذات موصوفة بصفة الرق، وصفة الرق صفة زائلة، والاشارة إلى الذات الموصوفة بصفة زائلة ذات موصوفة بصفة الرق، وصفة الرق صفة زائلة، والاشارة إلى الذات الموصوفة بصفة زائلة لا يتناول الاشارة إلى تلك الصفة، ألا ترى أنه لو حلف لا يتكلم مع هذا الشاب فصار شيخا ثم تكلم معه يحنث في يمينه، فثبت أن الاشارة إلى الذات الموصوفة بصفة عرضية زائلة، باقية بعد زوال تلك الصفة العرضية، وإذا ثبت هذا فنقول: قوله: {فانكحوهن بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} اشارة إلى الاماء، فهذه الاشارة وجب أن تكون باقية حال زوال الرق عنهن، وحصول صفة الحرية لهن، وإذا كان كذلك فالحرة البالغة العاقلة في هذه الصورة يتوقف جواز نكاحها على إذن وليها، وإذا ثبت ذلك في هذه الصورة وجب ثبوت هذا الحكم في سائر الصور؛ ضرورة أنه لا قائل بالفرق. احتج أبو بكر الرازي بهذه الآية على فساد قول الشافعي في هذه المسألة فقال: مذهبه أنه لا عبارة للمرأة في عقد النكاح، فعلى هذا لا يجوز للمرأة أن تزوج أمتها، بل مذهبه أن توكل غيرها بتزويج أمتها. قال: وهذه الآية تبطل ذلك، لأن ظاهر هذه الآية يدل على الاكتفاء بحصول اذن أهلها، فمن قال لا يكفي ذلك كان تاركا لظاهر الآية.
والجواب من وجوه:
الأول: أن المراد بالإذن الرضا. وعندنا أن رضا المولى لابد منه، فأما أنه كاف فليس في الآية دليل عليه.
وثانيها: أن أهلهن عبارة عمن يقدر على نكاحهن، وذلك إما المولى أن كان رجلا، أو ولي مولاها إن كان مولاها امرأة.
وثالثها: هب أن الأهل عبارة عن المولى، لكنه عام يتناول الذكور والإناث، والدلائل الدالة على أن المرأة لا تنكح نفسها خاصة قال عليه الصلاة والسلام: «العاهر هي التي تنكح نفسها» فثبت بهذا الحديث أنه عبارة لها في نكاح نفسها، فوجب أن لا يكون لها عبارة في نكاح مملوكتها، ضرورة أنه لا قائل بالفرق والله أعلم.
ثم قال تعالى: {وآتوهن أجورهن بالمعروف} وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: في تفسير الآية قولان: الأول: ان المراد من الأجور: المهور، وعلى هذا التقدير فالآية تدل على وجوب مهرها إذا نكحها، سمي لها المهر أو لم يسم، لأنه تعالى لم يفرق بين من سمى، وبين من لم يسم في إيجاب المهر، ويدل على أنه قد أراد مهر لمثل قوله تعالى: {بالمعروف} وهذا إنما يطلق فيما كان مبنيا على الاجتهاد وغالب الظن في المعتاد والمتعارف كقوله تعالى: {وَعلَى المولود لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بالمعروف} [البقرة: 233] الثاني: قال القاضي: ان المراد من أجورهن النفقة عليهن، قال هذا القائل: وهذا أولى من الأول، لأن المهر مقدر، ولا معنى لاشتراط المعروف فيه، فكأنه تعالى بين أن كونها أمة لا يقدح في وجوب نفقتها وكفايتها كما في حق الحرة إذا حصلت التخلية من المولى بينه وبينها على العادة، ثم قال القاضي: اللفظ وان كان يحتمل ما ذكرناه فأكثر المفسرين يحملونه على المهر، وحملوا قوله: {بالمعروف} على ايصال المهر اليها على العادة الجميلة عند المطالبة من غير مطل وتأخير.
المسألة الثانية: نقل أبو بكر الرازي في أحكام القرآن عن بعض أصحاب مالك أن الأمة هي المستحقة لقبض مهرها، وان المولى إذا آجرها للخدمة كان المولى هو المستحق للأجر دونها وهؤلاء احتجوا في المهر بهذه الآية، وهو قوله: {وآتوهن أجورهن بالمعروف} وأما الجمهور فانهم احتجوا على ان مهرها لمولاها بالنص والقياس، أما النص فقوله تعالى: {ضَرَبَ الله مَثَلاً عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ على شَيء} [النحل: 75] وهذا ينفي كون المملوك مالكا لشيء أصلا، وأما القياس فهو أن المهر وجب عوضا عن منافع البضع، وتلك المنافع مملوكة للسيد، وهو الذي أباحها للزوج بقيد النكاح، فوجب أن يكون هو المستحق لبدلها.
والجواب عن تمسكهم بالآية من وجوه:
الأول: أنا إذا حملنا الأجور في الآية على النفقة زال السؤال بالكلية.
الثاني: أنه تعالى إنما أضاف إيتاء المهور إليهن لأنه ثمن بضعهن وليس في قوله: {وَءاتُوهُنَّ} ما يوجب كون المهر ملكا لهن، ولكنه عليه الصلاة والسلام قال: العبد وما في يده لمولاه فيصير ذلك المهر ملكا للمولى بهذه الطريق والله أعلم.
ثم قال تعالى: {محصنات غَيْرَ مسافحات وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: قال ابن عباس: محصنات أي عفائف، وهو حال من قوله: {فانكحوهن} باذن أهلهن، فظاهر هذا يوجب حرمة نكاح الزواني من الاماء، واختلف الناس في أن نكاح الزواني هل يجوز أم لا؟ وسنذكره في قوله: {الزانى لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً} [النور: 3] والأكثرون على أنه يجوز فتكون هذه الآية محمولة على الندب والاستحباب وقوله: {غَيْرَ مسافحات} أي غير زوان {وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} جمع خدن، كالأتراب جمع ترب، والخدن الذي يخادنك وهو الذي يكون معك في كل أمر ظاهر وباطن.
قال أكثر المفسرين: المسافحة هي التي تؤاجر نفسها مع أي رجل أرادها، والتي تتخذ الخدن فهي التي تتخذ خدنا معينا، وكان أهل الجاهلية يفصلون بين القسمين، وما كانوا يحكمون على ذات الخدن بكونها زانية، فلما كان هذا الفرق معتبرا عندهم لا جرم أن الله سبحانه أفرد كل واحد من هذين القسمين بالذكر، ونص على حرمتهما معاً، ونظيره أيضاً قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبّيَ الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأعراف: 33].
المسألة الثانية: قال القاضي: هذه الآية أحد ما يستدل به من لا يجعل الايمان في نكاح الفتيات شرطا، لأنه لو كان ذلك شرطا لكان كونهن محصنات عفيفات أيضاً شرطا، وهذا ليس بشرط.
وجوابه: أن هذا معطوف لا على ذكر الفتيات المؤمنات، بل على قوله: {فانكحوهن بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَءاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} ولا شك أن كل ذلك واجب، فعلمنا أنه لا يلزم من عدم الوجوب في هذا، عدم الوجوب فيما قبله والله أعلم.
ثم قال تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بفاحشة فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات مِنَ العذاب}. وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم {أُحْصِنَّ} بالفتح في الألف، والباقون بضم الألف، فمن فتح فمعناه: أسلمن، هكذا قاله عمر وابن مسعود والشعبي والنخعي والسدي، ومن ضم الألف فمعناه: أنهن أحصن بالازواج. هكذا قاله ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد.
ومنهم من طعن في الوجه الأول فقال: انه تعالى وصف الاماء بالايمان في قوله: {فتياتكم المؤمنات} ومن البعيد أن يقال فتياتكم المؤمنات، ثم يقال: فاذا آمن، فان حالهن كذا وكذا، ويمكن أن يجاب عنه بأنه تعالى ذكر حكمين: الأول: حال نكاح الاماء، فاعتبر الايمان فيه بقوله: {مّن فتياتكم المؤمنات} والثاني: حكم ما يجب عليهن عند إقدامهن على الفاحشة، فذكر حال إيمانهن أيضا في هذا الحكم، وهو قوله: {فَإِذَا أُحْصِنَّ}.
المسألة الثانية: في الآية إشكال قوي، وهو أن المحصنات في قوله: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات} إما أن يكون المراد منه الحرائر المتزوجات، أو المراد منه الحرائر الأبكار.
والسبب في إطلاق اسم المحصنات عليهن حريتهن. والأول مشكل، لأن الواجب على الحرائر المتزوجات في الزنا: الرجم، فهذا يقتضي أن يجب في زنا الاماء نصف الرجم، ومعلوم أن ذلك باطل.
والثاني: وهو أن يكون المراد: الحرائر الأبكار، فحينئذ يكون هذا الحكم معلقا بمجرد صدور الزنا عنهن، وظاهر الآية يقتضي كونه معلقا بمجموع الأمرين: الاحصان والزنا، لأن قوله: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بفاحشة} شرط بعد شرط، فيقتضي كون الحكم مشروطا بهما نصا، فهذا إشكال قوي في الآية.
والجواب: أنا نختار القسم الثاني، وقوله: {فَإِذَا أُحْصِنَّ} ليس المراد منه جعل هذا الاحصان شرطا لأن يجب في زناها خمسون جلدة، بل المعنى أن حد الزنا يغلظ عند التزوج، فهذه إذا زنت وقد تزوجت فحدها خمسون جلدة لا يزيد عليه، فبأن يكون قبل التزوج هذا القدر أيضاً أولى، وهذا مما يجري مجرى المفهوم بالنص، لأن عند حصول ما يغلظ الحد، لما وجب تخفيف الحد لمكان الرق، فبأن يجب هذا القدر عند مالا يوجد ذلك المغلظ كان أولى والله أعلم.
المسألة الثالثة: الخوارج اتفقوا على إنكار الرجم، واحتجوا بهذه الآية، وهو أنه تعالى أوجب على الأَمَةِ نصف ما على الحُرَّة المُحْصَنَة، فلو وجب على الحرة المحصنة الرجم، لزم أن يكون الواجب على الأمة نصف الرجم وذلك باطل، فثبت أن الواجب على الحرة المتزوجة ليس إلا الجلد، والجواب عنه ما ذكرناه في المسألة المتقدمة، وتمام الكلام فيه مذكور في سورة النور في تفسير قوله: {الزانية والزانى فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا مِاْئَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2].
المسألة الرابعة: اعلم أن الفقهاء صيروا هذه الآية أصلا في نقصان حكم العبد عن حكم الحر في غير الحد، وإن كان في الأمور مالا يجب ذلك فيه والله أعلم.
ثم قال تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِىَ العنت مِنْكُمْ} ولم يختلفوا في أن ذلك راجع إلى نكاح الاماء فكأنه قال: فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات لمن خشي العنت منكم، والعنت هو الضرر الشديد الشاق قال تعالى فيما رخص فيه مخالطة اليتامى: {والله يَعْلَمُ المفسد مِنَ المصلح وَلَوْ شَاء الله لاعْنَتَكُمْ} [البقرة: 220] أي لشدد الأمر عليكم فألزمكم تمييز طعامكم من طعامهم فلحقكم بذلك ضرر شديد وقال: {وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ البغضاء مِنْ أفواههم} [آل عمران: 118]، أي أحبوا أن تقعوا في الضرر الشديد. وللمفسرين فيه قولان:
أحدهما: أن الشبق الشديد والغلمة العظيمة ربما تحمل على الزنا فيقع في الحد في الدنيا وفي العذاب العظيم في الآخرة، فهذا هو العنت.
والثاني: أن الشبق الشديد والغلمة العظيمة قد تؤدي بالانسان إلى الأمراض الشديدة، أما في حق النساء فقد تؤدي إلى اختناق الرحم، وأما في حق الرجال فقد تؤدي إلى أوجاع الوركين والظهر. وأكثر العلماء على الوجه الأول لأنه هو اللائق ببيان القرآن.
ثم قال تعالى: {وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ} وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: المراد أن نكاح الاماء بعد رعاية شرائطه الثلاثة أعني عدم القدرة على التزوج بالحرة، ووجود العنت، وكون الأمة مؤمنة: الأولى تركه لما بينا من المفاسد الحاصلة في هذا النكاح.
المسألة الثانية: مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه أن الاشتغال بالنكاح أفضل من الاشتغال بالنوافل، فإن كان مذهبهم أن الاشتغال بالنكاح مطلقاً أفضل من الاشتغال بالنوافل، سواء كان النكاح نكاح الحرة أو نكاح الأمة، فهذه الآية نص صريح في بطلان قولهم، وإن قالوا: إنا لا نرجح نكاح الأمة على النافلة، فحينئذ يسقط هذا الاستدلال، إلا أن هذا التفصيل ما رأيته في شيء من كتبهم والله أعلم.
ثم إنه تعالى ختم الآية بقوله: {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} وهذا كالمؤكد لما ذكره من أن الأولى ترك هذا النكاح، يعني أنه وإن حصل ما يقتضي المنع من هذا الكلام إلا أنه تعالى أباحه لكم لاحتياجكم إليه، فكان ذلك من باب المغفرة والرحمة، والله أعلم.


{يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26)}
فيه مسائل:
المسألة الأولى: اللام في قوله: {لِيُبَيّنَ لَكُمْ} فيه وجهان:
الأول: قالوا: إنه قد تُقام اللامُ مقام أن في أردت وأمرت، فيقال: أردت أن تذهب، وأردت لتذهب، وأمرتك أن تقوم، وأمرتك لتقوم، قال تعالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ الله} [الصف: 8] يعني يريدون أن يطفؤا، وقال: {وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبّ العالمين} [الأنعام: 71].
والوجه الثاني: أن نقول؛ إن في الآية إضمارا، والتقدير: يريد الله إنزال هذه الآيات ليبين لكم دينكم وشرعكم، وكذا القول في سائر الآيات التي ذكروها، فقوله: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ الله} يعني يريدون كيدهم وعنادهم ليطفؤا، وأمرنا بما أمرنا لنسلم.
المسألة الثانية: قال بعض المفسرين: قوله: {يُرِيدُ الله لِيُبَيّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الذين مِن قَبْلِكُمْ} معناهما شي واحد، والتكرير لأجل التأكيد، وهذا ضعيف، والحق أن المراد من قوله: {لِيُبَيّنَ لَكُمْ} هو أنه تعالى بين لنا هذه التكاليف، وميز فيها الحلال من الحرام والحَسَن من القبيح.
ثم قال: {وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الذين مِن قَبْلِكُمْ} وفيه قولان:
أحدهما: أن هذا دليل على أن كل ما بين تحريمه لنا وتحليله لنا من النساء في الآيات المتقدمة، فقد كان الحكم أيضا كذلك في جميع الشرائع والمِلَل، والثاني: أنه ليس المراد ذلك، بل المراد أنه تعالى يهديكم سُنَنَ الذين من قبلكم في بيان مالكم فيه من المصلحة كما بينه لهم، فان الشرائع والتكاليف وإن كانت مختلفة في نفسها، إلا أنها متفقة في باب المصالح، وفيه قول ثالث: وهو أن المعنى: أنه يهديكم سنن الذين من قبلكم من أهل الحق لتجتنبوا الباطل وتتبعوا الحق.
ثم قال تعالى: {وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ} قال القاضي: معناه أنه تعالى كما أراد منا نفس الطاعة، فلا جرم بينها وأزال الشبهة عنها، كذلك وقع التقصير والتفريط منا، فيريد أن يتوب علينا، لأن المكلف قد يطيع فيستحق الثواب، وقد يعصي فيحتاج إلى التلافي بالتوبة.
واعلم أن في الآية إشكالا: وهو أن الحق إما أن يكون ما يقول أهل السنة من أن فعل العبد مخلوق لله تعالى، وإما أن يكون الحق ما تقوله المعتزلة من أن فعل العبد ليس مخلوقا لله تعالى، والآية مشكلة على كلا القولين.
أما على القول الأول: فلأن على هذا القول كل ما يريده الله تعالى فانه يحصل، فاذا أراد أن يتوب علينا وجب أن يحصل التوبة لكلنا، ومعلوم أنه ليس كذلك، وأما على القول الثاني: فهو تعالى يريد منا أن نتوب باختيارنا وفعلنا، وقوله: {وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ} ظاهره مشعر بأنه تعالى هو الذي يخلق التوبة فينا ويحصل لنا هذه التوبة، فهذه الآية مشكلة على كلا القولين.
والجواب أن نقول: إن قوله: {وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ} صريح في أنه تعالى هو الذي يفعل التوبة فينا. والعقل أيضا مؤكد له، لأن التوبة عبارة عن الندم في الماضي، والعزم على عدم العَوْد في المستقبل، والندم والعزم من باب الإرادات، والإرادة لا يمكن إرادتها، وإلا لزم التسلسل، فاذن الارادة يمتنع أن تكون فعل الانسان، فعلمنا أن هذا الندم وهذا العزم لا يحصلان إلا بتخليق الله تعالى، فصار هذا البرهان العقلي دالا على صحة ما أشعر به ظاهر القرآن، وهو أنه تعالى هو الذي يتوب علينا، فأما قوله: لو تاب علينا لحصلت هذه التوبة، فنقول: قوله: {وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ} خطاب مع الأمة، وقد تاب عليهم في نكاح الأمهات والبنات وسائر المنهيات المذكورة في هذه الآيات، وحصلت هذه التوبة لهم، فزال الإشكالُ، والله أعلم.
ثم قال تعالى: {والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أي عليم بأحوالكم، حكيم في كل ما يفعله بكم ويحكم عليكم.

4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11